فصل: باب: كَيفَ تُهِلُّ الحَائِضُ بالحَجِّ وَالعُمْرَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ الجُنُبِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَنَام

288- قوله‏:‏ ‏(‏غسل فرجه وتوضأ للصلاة‏)‏ اختصر فيه الراوي اختصاراً مُخِلاًّ، والمراد توضأ وضوءه للصلاة، وانكشف ههنا أن غَسْلَ الذَّكَرِ والوضوء كله مطلوب في الحالة الراهنة، وأنه من أحكام الجنابة كما مَرَّ مراراً، فلا بد للمشتغل بالفقه أن يراعيَ الأحاديث ويمارسها ويزاولها، لأن في الشرع أحكاماً خَمَلَتْ في الفقه‏.‏ فإن قلت‏:‏ إذا كان مقلداً فلا حاجة له إلى النظر في الأحاديث، ويكفي له قول إمامه الذي يُقَلِّده‏.‏ قلت‏:‏ كلا بل لا يتحتَّم التقليد إلا بعد المراجعة إليها، فإنه إذا يمرُّ على الأحاديث والمسائل، ويرى مأخذها، يستقر رأيه، ويطمئن قلبه لا محالة، ويقلد من يقلد بعد ثَلْجِ الصَّدْرِ، كما حررناه من قبلُ، ومن كان تقليده تقليدَ الأعمى، فإنه على رِجْلِ طائر‏.‏

باب‏:‏ إِذَا التَقَى الخِتَانَان

باب‏:‏ غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ رُطُوبَةِ فَرْجِ المَرْأَة

واعلم أنه ذهب جماعة إلى إنكار النسخ في هذا الباب رأساً، وأن الأمر الآن كما كان يُوهمه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عند الترمذي من قوله‏:‏ «إنما الماء من الماء في الاحتلام»، وقد مر معنا تحقيقه في المقدمة وأنه ثبت فيه النسخ البتة، وأنه ينبغي أن يُؤَوَّلَ قول ابن عباس رضي الله عنه‏.‏ وكذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان‏:‏ «أن الرجل إذا جامع امرأته ولم يُمْنِ يتوضأ وضوءه للصلاة، ويغسل ذكره»‏.‏ يُحْمَل على ‏(‏أنه كان‏)‏ قَبْلَ جمع عمر رضي الله عنه إياهم وإجماعهم على وجوب الغُسْل بمجاوزة الخِتَانَين‏.‏

فقد أخرج الطحاوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم تذاكروا عند عمر بن الخطاب الغُسْلَ من الجنابة، فقال بعضهم‏:‏ «إذا جاوز الخِتَان الختانَ فقد وَجَبَ الغُسْل»، وقال بعضهم‏:‏ «إنما الماء من الماء»، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ «قد اختلفتم عليَّ وأنتم أهل بدر الأخيار‏؟‏ فكيف بالناس بعدكم‏؟‏ فقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أردتَ أن تَعْلَم ذلك فأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فسلهنَّ عن ذلك، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت‏:‏ إذا جاوز الخِتَانُ الخِتَانَ فقد وَجَبَ الغُسْل، فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك‏:‏ لا أسمعُ أحداً يقول‏:‏ الماء من الماء إلا جعلته نَكَالاً»‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ فهذا عمر رضي الله عنه قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يُنْكِر ذلك عليه مُنْكِر‏.‏ قلت وهذا أصرح شيء‏.‏ وأقواه في أن الأمر كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وأن حديث‏:‏ «الماء من الماء» منسوخ، ومع ذلك يتسلسل النقل عن عثمان أنه كان يختار حديث‏:‏ «الماء من الماء» فالذي ينبغي أن نحمله عليه أنه كان قبل إجماع أهل الحَلِّ والعَقْد، وأما بعده فلا ينبغي تلك النسبة إليه كما وقع في «الفتح» ولذا عَدَّه الترمذي فيمن أوجبوا الغُسل بالمجاوزة‏.‏ وأخرج الطحاوي أيضاً قال‏:‏ اجتمع المهاجرون‏:‏ أنه ما أوجبَ الحدَّ من الجلد والرَّجْم أوجبَ الغُسل‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فعدَّ عثمان رضي الله عنه أيضاً منهم‏.‏

وعبارة المصنَّف رحمه الله تعالى مع التكرار في الموضعين تُوهِم أنه ذهب إلى إيجاب الغُسل من الإنزال دون المجاوزة، ولذا أَلانَ في الكلام فقال مرة‏:‏ الغُسْلُ أحوط، وأخرى‏:‏ الماء أنقى، ويمكن أن يُؤَوَّل قوله‏:‏ أنَّ الأحوط لا ينحصر في الاستحباب بل يُطْلَق على الواجب أيضاً عند تعارض الدليلين، يعني إذا تعارض الدليلان فاخترتَ الوجوب احتياطاً مثلاً، صَدَقَ قولُك إنك اخترت الأحوط على الواجب أيضاً‏.‏ وأما إذا حُمِلَ قوله على الحكم، أي حكم الغسل أحوط، يعني‏:‏ الأحوط له أن يغتسل، وإن لم يغتسلْ لا بأس، لأن الواجب فيه الوضوء لا غير، فحينئذ لا يكون لقوله وجهٌ، ويخالف الإجماع‏.‏

قلت‏:‏ وإن فرضنا أنه أَلانَ الكلامَ واختار استحبابَ الغُسل، فلعله أوَّلَ قولَه صلى الله عليه وسلّم «إذا جاوز الخِتانُ الختانَ» أنه كناية عن الإنزال لخروج الماء بعدها في الأغلب، وحينئذ لا يكون الحديث المذكور عنده صريحاً في إيجاب الغُسل بالمجاوزة فقط، وإذا لم يَقُمْ عنده دليل على إيجاب الغُسل بمجرَّد المجاوزة أَلانَ في الكلام وقال‏:‏ الغُسْل أحوط‏.‏ ولذا لما أراد أن يُخَرِّج حديثاً يدلُّ على عدم وجوب الغسل بالمجاوزة بَوَّب عليه كما سيأتي‏:‏ «باب غَسْلِ ما يُصِيب من فَرْجِ المرأة»، ونَظَرُه إلى إخراج الأحاديث كما ترى، إلا أنه أراد أن لا يُفْصِح بمراده احتياطاً، ولكنه وَجَّه الناظرين إليه فقط، فإن الموضع مُشْكِل، فأراد أن يُخَرِّج مادتَه من الأحاديث ومن أسماء الصحابة الذين ذهبوا إليه، ويشير إليه فقط ولا يتكلم بشيء‏.‏

ثم وإن رُوي عند مسلم في هذا الحديث‏:‏ «وإن لم يُنْزِل» صراحةً لكنه ليس على شرطه ليكون عليه حِجَّة، وما كان على شرطه يَصْلُح أن يُجعل كناية عن الإنزال مع نقل الاختلاف فيه‏.‏ فهذا وجه ما ذهب إليه البخاري واختيارُه لو كان اختاره‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ المسألةَ منفصلة، وإنما ذكرته بحثاً فقط ليظهر وجه ما للبخاري مع ورود هذه الصرائح في الباب‏.‏

كتاب‏:‏ الحَيض

والحيض دم معروف حَدَّده فقهاؤنا، ولا تحديد في الخارج، وإنما يختلف باختلاف الأمصار والأعصار، ولذا ذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أنَّه أمكن أن يكون ساعةً أيضاً، وإنما وَقَّتَه في باب العدة فقط، ولم يَرِد في هذا الباب من المرفوع شيء ولو بإسناد ضعيف، ومَرَّ عليه الزيلعي رحمه الله تعالى في تخريج الهداية، فلم يأت إلا بالمناكير- وهو رفيق للحافظ زين الدين العراقي رحمه الله تعالى، وكان يصنِّف في هذه الأيام تخريج الإحياء والزيلعي رحمه الله تعالى «تخريج الهدية»، وكان يرافق أحدُهما الآخر، فإذا ظَفِر أحدُهما بحديث نادر أرسله إلى الآخر ليستفيد منه في تصنيفه، وظني أن الزيلعي رحمه الله تعالى أحفظُ من الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى‏.‏ وقد صنف الحافظ رحمه الله تعالى «فتح الباري» في اثنين وعشرين سنة، وصنَّف العيني رحمه الله تعالى «عمدة القاري» في عشرة سنين- وصرح ابن العربي رحمه الله تعالى أنه لا توقيت فيه‏.‏

وكنتُ أتمنى أن أرى مثلَه من قلم حنفي أيضاً إلا أني مع التتبع الكثير لم أرَ أحداً صرَّح به، ثم ذكر ابن العربي رحمه الله تعالى أنه صنف رسالةً مستقلة في هذا الباب، إلا أنها ضاعت منه في سفر فلم يقدر على جمعها ثانياً‏.‏ أما في هذا العصر فلا توجد غير رسالة البِرْكِلي وهو معاصر لصاحب «الدر المختار»، إلا أنها لاشتمالها على الأغلاط قد انقطعت الفائدة منها، لأن المصنِّف رحمه الله تعالى ذكر في خُطبتها أنه جمع هذه الرسالة من كتب مملوءة بالأغلاط، فاجتهد في تصحيحها، ومع ذلك بقيت فيها أغلاط كثيرة‏.‏

وقد راجعت تلك الرسالة فوجدتُ فيها أغلاطاً كثيرة، وشرحها ابن عابدين واتَّبَعَ الماتن، فاحتوى شرحه أيضاً على الأغلاط‏.‏ ونِعْمَ ما فعله المالكية حيث وقَّتوه في باب العِدَّة، أما في معاملة بيتها وصلاتها وصيامها، فاعتبروا فيها رأيَها وفَوَّضوها إليه‏.‏ والحاصل‏:‏ أن دم الحيض غير موقت شرعاً وعرفاً، وليت الحنفية كتبوا مثله ولكن‏:‏

ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدْرِكُه *** تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السُّفُنُ

‏(‏توقيت مدة الحمل‏)‏

وهكذا الأمر في توقيت مُدَّة الحَمْل، فإنها أيضاً غير مُوَقَّتة، فقد تمتد إلى عشرة سنين لأجل المرض، مع أن فقهاءنا صرَّحوا أن أكثر مدة الحمل سنتان، ولم يكتب أحدٌ منهم أنها مدة طَبْعِيَّة‏.‏ وأما بالعوارض فيمكن أن تزيد عليها، فلو كتبوه لاسترحنا‏.‏

وكان ينبغي للفقهاء أن يرجعوا إلى الأطباء‏.‏ في مثل هذه الأمور، فإنّ لكل فنَ رجالاً، ثم إنه تحديد اجتهادي لا تحديد شرعي، والأصل فيما لم يَرِد فيه التعديد أن يرسل على حيالها ولا يقدَّر كما في أصول الفقه‏:‏ أن نصب الحدود والمقادير لا يجوز بالقياس‏.‏ ومرادهم من الحدود والمقادير كأعداد الرَّكَعَات ونحوها دون الحدود التي هي زواجر أو سواتر على اختلاف الرأيين، وعليه جرى السَّرخسِي رحمه الله تعالى في تحديد العمل الكثير والقليل، والماء القليل والكثير، ففوَّضه إلى رأي المبتَلَى به، وهكذا فعل في أَجَلِ السَّلَم وتعريف اللُّقَطَة، فأحاله على رأي المبتَلَى به، وإن حدده أصحابُ المتون‏.‏

ثم الأصل وإن كان هو التفويض إلا أنَّ نظامَ العالَم لا يستوي إلا بالتقدير، فإن كثيراً من العوام ليس لهم رأي، ولا ينفع فيهم التفويض أصلاً، فيحتاج إلى التحديد لا محالة، فالتحديد من المجتهد فيما لم يَرِدْ به الشرع إنما هو لقضاء حوائج الناس، كما قالوا في مسألة الطُّهْر‏:‏ إنه لا حدَّ لأكثره، ومع ذلك حدَّوده عند نَصْبِ العادة في زمن الاستمرار، وفي هذه المسألة ستة أقوال لمشايخنا‏.‏ والمختار عندي أنها تخرج من عدتها في ثلاثة أشهر، ويُحْسَبُ شهرُها عن طُهر وطَمْثٍ، وهكذا في ممتدة الطهر حيث ليس لها حيلة على مذهبنا إلا بالتربُّص ثلاثة قروء، ولا شك أنه مُعْتَضِد بالنص، فإنها مطلَّقة، وهذه عدتها بالنص إلا أن طُهرها إذا امتدَّ وضاق عليها أمرها لجأنا إلى الإفتاء بمذهب مالك رحمه الله تعالى‏.‏

فكما أنهم اضطروا إلى التحديد في هذه المواضع لئلا تتعطل عن حوائجها، كذلك اضطروا إلى تحديد أقل الحيض وأكثره، وإن لم يتوقَّت في الخارج‏.‏

والحاصل‏:‏ أن المجتهد في هذا التحديد مجبور ومأجور، بل أُهَنِّؤُهُم عليه حيث أخرجوا مخرجاً وسبيلاً للخلائق، وخلصوهم عن المضائق، ولعلك ما نسيتَ ما كنتُ ألقيتُ عليك في كتاب العلم أنَّ الحديثَ أيضاً قد يحتاج إلى الفقه في بعض المَلاحِظ، وهي أمثال هذه، فإنه لا يكفي لك فيها الاقتصار على الحديث، ولا يسع لك قطع النظر عن الفقه‏.‏ فالفقه لا يتم بدون الحديث، لأن المرء إذا مرَّ بالحديث، وجال نظره فيه، وفَهِمَ مداركه ومعانيه، استقر على الفقه وسكن قلبه، حيث لم يجده رأياً محضاً غيرَ مستنِدٍ إلى دليل سماوي، وكذلك الحديث لا يستقرّ مراده ولا ينقطع محتملاتُه بدون المراجعة إلى أقوال الفقهاء ومذاهب الأئمة‏.‏ فإذا ادَّراها وأمعن النظر فيها تبيَّن له الوجوه، ولم يبق له فيما سواها مساغ‏.‏

فالفقه محتاج إلى الحديث في نفسه، والحديث محتاج إليه للعمل، وهكذا القرآن يبقى معلَّقاً بدون الرجوع إلى ألفاظ الحديث، وأعني بالتعليق أنَّ النظر لا يزال يتردد فيه، ولا يَقْنَع بشيء، حتى إذا رجع إلى الحديث استقر وسكن‏.‏ وهذا لأن اللغة لم تتكفل إلا ببيان المعاني الموضوعة له دون مراد المتكلِّم، وهو ربما يتعسَّر تحصيلُه في كلام الناس، فكيف بالكلام المُعْجِز‏؟‏ والكلام كلما ارتفع تحمَّل الوجوه واحتمل المعاني، ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يَسَّرْنَا القرآنَ للذِّكْرِ فهل من مُذَّكِر‏}‏ ‏(‏القمر‏:‏ 32‏)‏ وهذا أمر وراء التيسير، فالقرآن يسير ومع ذلك عسير، انقضَّ به ظهر الفحول، ومعنى يُسْرِه قد بَّينَاه‏.‏

ثم إنَّ الأمرَ إن كان كما سمعت آنفاً من أنه لا تحديد فيه لا في الخارج ولا في الحديث، وإنما التحديد فيه ضرورة بالاجتهاد، فأبو حنيفة رحمه الله تعالى أَسْبَقُ فيه من الكل، وعنده في ذلك إشارات وعبارات من النصوص، كما في حديث أخرجه الترمذي في خُطبة النبي صلى الله عليه وسلّم في أبواب الإيمان وفيها‏:‏ «فتمكث إحدَاكُنَّ الثلاث والأربع لا تصلي»‏.‏ اه‏.‏ وتمسَّك به الطحاوي في «مشكله»‏.‏ وما عند ابن ماجه وفيه زيادة‏:‏ وفي الخارج أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يُضَاجِعُهُنَّ إلى ثلاثة أيام، ثم يُضَاجِعُهُنَّ بعد أن تَتَّزِرْنَ‏.‏ وهذه كلها تنزل على مذهبنا لأنه لم ينزل فيه عن الثلاث‏.‏

ولنا أثر أنس رضي الله عنه صححه في «الجوهر النقي» وإن تأخر عنه البيهقي، وأثر عثمان بن العاص عند الدارقطني‏.‏ وأورد علينا الشافعية أن الشهر إذا لم يَخْلُ عن طُهْرِ وطَمْثٍ، وتَكَرُّر الطَّمْثِ في الشهر نادرٌ، فيلزم على مذهبكم أن لا يستقيم الحساب، فإن أقلَّ الطُّهر خمسةَ عشرَ اتفاقاً بيننا وبينكم، فلو كان الطَّمْثُ أكثرُه عشرةَ أيام، يلزم أن يبقى خمسة أيام من الشهر مهملاً غير معدود في الطمث ولا في الطهر، بخلافه على مذهبنا حيث قسمنا الشهر عليهما، فجعلنا النِّصف للطَّمْثِ والنصف الآخر للطُّهر‏.‏

أقول‏:‏ أما أولاً‏:‏ فعن الإمام كما في «النهاية»‏:‏ أن أكثره عشرة، وأقل الطهر عشرون يوماً، فيستقيم الحساب على مذهبنا أيضاً‏.‏ وأما ثانياً‏:‏ فلأن أقلَّ الطهر ليس عندنا خمسة عشر يوماً مطلقاً، بل هو عشرون يوماً في بعض الصور، كما في المُسْتَحاضة المبتدَأة، فيستقيم الحساب ولو في الجملة‏.‏ وأما ثالثاً‏:‏ فلأن تكرُّرَ الطهر وإن كان نادراً إلا أنه ليس معدوماً محضاً، فينبغي النظر إليه أيضاً‏.‏ وفي «المواهب اللَّدنية» إسناداً‏:‏ «أن الله سبحانه لما أهبط حواء أخبرها أنها تَحْمِل كُرْهاً وتضع كُرْهاً» وفي آخره‏:‏ «ولأُدْمِيَتَّها في شهرٍ مرتين»، ومع هذا ذهبوا إلى أن التكرار نادر، وفي إسناده سُنَيْد، وهو من القدماء ومفسِّر للقرآن‏.‏ وهذه الرواية عند ابن كثير أيضاً إلا أنه ليست في آخره تلك الزيادة، وحينئذ يمكن أن يكون بناؤه على تكرر الحيض وإن كان نادراً‏.‏

ثم إنهم تمسكوا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللائي يَئِسْنَ من المَحِيضِ فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشهر‏}‏ ‏(‏الطلاق‏:‏ 4‏)‏ حيث حسب فيه الشهر عن طهر وطَمْث، وإذا كان أقلُّ الطهر خمسةَ عشرَ بالاتفاق، فالباقي للطمث لا محالة، وهو خمسة عشر، وبناؤه على تكرر الطمث بعيد لأنه نادر‏.‏ قلت‏:‏ نعم بناؤه ليس على التكرر، إلا أنَّا علمنا من عاداتهن أن طهرهن في الشهر يكون أغلب من الطمث غالباً، كما في حديث حَمْنَة، حيث عَدّ طمثها ستة أو سبعة، وهكذا هو المعروف في عادات النساء أن طهرهن يكون غالباً على أيام حيضهن‏.‏ ولمّا كانت عاداتهن مختلفة جمع القرآن الحيضَ والطهر في الشهر تخميناً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تَقْرَبُوهُنَّ‏)‏ واعلم أنه قد مرَّ مراراً أن أنظار الأئمة ربما تختلف في أخذ مراتب الآية، فيأخذ واحد مرتبتها العليا وآخر مرتبتها السفلى، ويتحير فيه الناظر، فيزعم أن هذا وافقها وهذا خالفها، والأمر أنهم يَتَحَرَّون العمل بها أجمعون، ويجتهدون فيها بما يستطيعون، إلا أنه تختلف أنظارهم في المراتب، والأصوليون وإن بحثوا عن العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، ولكنهم لم يبحثوا في مراتب الشيء وكان لا بد منه فقالوا‏:‏ إن العموم والخصوص يجري في الأفراد والآحاد، والإطلاق يكون في التقادير وأوصاف الشيء، والمراتب بمعزل عنهما‏.‏

وظاهر الآية الأمر بالاعتزال مطلقاً، وهو عين ما كان يفعله اليهود، ووجه التفصِّي عنه أن في الاعتزال مراتبَ وهي مجملة فصَّلها الحديث، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم بعد نزولها افعلوا كل شيء إلا النكاح، فمن حاملٍ حَمَلَها على الجماع والاتقاء عن موضع الطَّمْثِ خاصةً، ومن حَاملٍ حَمَلَها على الاستمتاع بما دون السُّرَّة إلى الركبة، لأن حريم الشيء في حكمه، فجعل موضع النجاسة وما يتبعها في حكمٍ واحدٍ، وكلاهما نوعٌ من الاعتزال ومرتبةٌ منه‏.‏ أما أن المراد في النص أيُّ قدرٍ منه وأيُّ مرتبة، فالله ورسوله أعلم‏.‏ وسيجيء تحقيق المسألة في بابه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يَطْهُرْنَ‏)‏ قُرِىء بالتخفيف والتشديد، والحنفية يَعُدُّون القراآت كالآيات المستقلة، فيأخدون منها أحكاماً، فحملوا قراءة التشديد على تصرُّم الدم لأقل من العشرة، لأن التَّطَهُّر تَفَعُّل، بمعنى تحصيل الطهارة من فعله وهو الغسل، وحملوا قراءة التخفيف على تصرُّم الدم على العشرة، فإنَّ طَهُرَ لازمٌ، فيحصل الطهور بأمر سماوي بدون صنعه‏.‏ قالوا‏:‏ إنه يجامعها في الصورة الأولى بعد الاغتسال، لأن الدم ينقطع مرة ويَدُرُّ أخرى، فيحتمل العَوْد، فلا بد أن يعتضد الانقطاع بالاغتسال، بخلاف الصورة الثانية، فإنه إذا انقطع على أكثر مدته فلا خشية لعوده، وتطهر حساً فيجوز الجماع بدون الاغتسال‏.‏

قيل‏:‏ إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى تفرَّد في إباحة الجماع بلا غُسل، لأن القرآن يدلّ على أن الإتيان إنما يُبَاح له بعد الاغتسال فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 222‏)‏ أي اغتسلن ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ‏}‏ قلت‏:‏ والجماع وإن كان جائزاً بدون الاغتسال لكنه يُستحبُّ لها أن تغتسل ثم يجامعها زوجها، ويجب الغُسل للصلاة إجماعاً، فإنها غير طاهرة حكماً، وإن طَهُرَتْ حساً‏.‏ وحينئذٍ جاز لي أن أقول‏:‏ إن المراد من التطهر في النص هو التطهُّر بنَحْوَيْهِ‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ أي وجوباً تارةً واستحباباً أخرى ‏{‏فَأْتُوهُنَّ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وذلك عندي واسع في اللغة ولا بدع عندي في إدخال مسمًّى واحد وحقيقة واحدة تحت لفظ، وإن اختلفت صفاته من الخارج، كالاستحباب والوجوب، فإن هاتين صفتان تَعْرِضان للحقيقة من الخارج مع بقائها في الصورتين‏.‏ فإن الصلاة حقيقةٌ واحدة ولا اختلاف في حقيقتها بين الفريضة والنافلة، فإنهما صفتان لها بالنظر إلى لُحُوق الأمر وعدمه، وحينئذ لا ضَيْرَ في إدخال النوعين تحت لفظ واحد، وقد فصَّلناه في رسالتنا «فصل الخطاب» بما لا مزيد عليه‏.‏

وبالجملةِ الأقربُ عندي أن القرآن إذا لم يتعرض إلى أقلّ الحيض وأكثره- كما كان غير متعين في الخارج- فلا يُبنى الأحكام على أقله وأكثره‏.‏ فالذي ينبغي أن يُشترط الغُسل للجماع ولا بُدَّ‏.‏ نعم إن قام دليل للمجتهد من الخارج على أنَّ الدم لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُجيز به قبل الاغتسال لطهارتها حساً، ولكن المستحسن للقرآن هو الإطلاق، لأنه ينزل بما هو مطلوب، وللمجتهد هو التفصيل، لأنه يبحث عن الفروع‏.‏

وتفصيله أنَّ القرآنَ عَلَّق الإتيان بالأمرين‏:‏

الأول‏:‏ هو الطهارة الحسية، وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَطْهُرْنَ‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ الاغتسال، وهو المذكور بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏‏.‏ وكأنَّ أصل الكلام هكذا‏:‏ فإذا طَهُرْنَ وتَطَهَّرْنَ فأتوهن من حيث‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وإنما حُذِف أحدُ الفعلين اختصاراً لدلالة ما قبله عليه، وإنما راعى الأمرين لأن من عادة النساء أنهن لا يَطْمَأننَّ في أنفسهن في طُهورهن ما دُمنَ لم يغتسلن، ولا يزال يبقى لهن التردد في عَوْدِ الدم، وإن كان انقطع على عادتهن، فإذا اغتسلن فيطمئن قلبهن، فكما أن الطمأنينة في الخارج لم تحصل لهن إلا بعد الطُّهْر السماوي والاختياري كليهما، كذلك القرآن أخذ مجموع الأمرين على وَفْقِ ما في الخارج‏.‏

فهذا الذي مشى عليه القرآن، يعني على الإبهام والإجمال بدون عناية إلى تفصيل بين الأقل والأكثر، وبدون تفصيل في البناء عليهما‏.‏ ثم جاء المجتهد وقسم هذين الأمرين وقال‏:‏ إن الدم إن تَصَرَّم لأكثر مدته فالدخيل في أمر جماعها هو الطهارة السماوية فقط، فيباح له الجماع بمجرَّد انقطاعه وإن تَصَرَّم لأقل منه فالدخيل هو الطهارة الاختيارية، أي الاغتسال، فلا يجوز الجماع إلا بعده، فينبغي للقرآن الإطلاق في صورة الإطلاق وتفويض إلى الاجتهاد‏.‏ فإن القرآن أطلق في الاغتسال لأنه لم يتعرض إلى الأقل والأكثر لعدم تعيينه في الخارج، فإن عَلِم المجتهد من تحرِبته أنَّ الدمَّ لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُخْصِّص هذا الجزئي من اجتهاده لا بحكم النص‏.‏ وهذا معنى صحيح لا يخالفه النص أصلاً‏.‏ نعم لو قلنا‏:‏ إن القرآن شرط الاغتسال فيما تصرم الدم على الأكثر أيضاً لخالفه وناقضه البتة، ولكنك سمعتَ آنفاً أن القرآن لم يُومِ إليه أصلاً، وإنما جاء على عادتهن في الخارج من اعتبار الأمرين‏.‏

وهناك أمر آخر يُعْلَم من كتاب «الناسخ والمنسوخ» عن الطحاوي أنَّ الفرقَ بين العَشَرة وبين ما دونها إنما نُقِلَ عن الإمام الأعظم رحمه الله تعالى في حق الرَّجْعَةِ خاصةً، فالمطلَّقة إذا انقطع دمها لأقلَّ من العشرة، وأدركت وقتَ الاغتسال والتحريمة انقطع حق الرجعة عنها، وليس للزوج أن يراجعها بعدمضيِّ القُرْءِ الثالث إذا انقطع لأقلها في الصورة المذكورة‏.‏ فهذا الفرق إنما كان في حق الرجعة خاصة، ثم انتقل إلى الصلاة وغيرها أيضاً، ولا ريب أن الطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى لأنه تحصَّل فقهه بثلاث وسائط، فكان ينبغي أن يُعْتَمَد عليها، ولكني لا أعتمد على تلك النسخة لاشتهار المذهب بخلافه، نعم إن ثبت من طريق معتبرة فيكون له وجه‏.‏

ثم إنهم قالوا‏:‏ إنه إذا انقطع دمها لأقل من عشرة أيام لم يَحِلَّ وطؤها حتى تغتسل، ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقَدْرِ أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حَلَّ وطؤها‏.‏ وهذا يُشْعِر بأن مدة الغُسْل عندهم معدودة في زمان الحيض، ومثله ما قالوا في باب الرَّجْعَة‏:‏ أن دمها إذا انقطع لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل، وإن انقطع لأقلَّ منها لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل، أو يمضيَ عليها وقت صلاة كاملة‏.‏ قلت‏:‏ وإنما أخذوه من هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ‏}‏ فإنه اعتُبِرَتْ فيها مدة التطهر من زمان الحيض وأُبيح الجماع بعده، إلا أنهم لا يُفْصِحون بأن مسائلهم تلك مأخوذة من القرآن، فعليك أن تتفكر فيه لينجلي لك الحال‏.‏

ومن ههنا اندفع ما عرض لابن رُشْد من عدم الارتباط بين الغاية والاستئناف، فقال‏:‏ إن مَثَلَهُ كمثل قولنا‏:‏ لا أُعطيك درهماً حتى تدخل بيتي، فإذا دخلت المسجد فلك كذا‏.‏ فالغاية غايرت الاستئناف وكذا الاستئناف يغايرها، والصحيح من الكلام أن يقال‏:‏ فإذا دخلت بيتي‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، لاتحادهما فيه‏.‏ وحاصل الجواب‏:‏ أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَطْهُرْنَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ أي حتى يَطَّهَّرْنَ ويَطْهُرْنَ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ وطَهُرْنَ ‏{‏فإتوهن من حيث أمركم ا‏}‏ فأخذ أحد الفعلين من المعطوف عليه، وحذف مقابله من المعطوف ليكون ذكر الآخر قرينة على حذفه من المعطوف عليه، فحصل الارتباط في غايته‏.‏ والجواب الثاني أن قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ لا يتعلق عندي بالغاية بل يتعلق بصدر الكلام أي ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ‏}‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ‏}‏ إلخ‏.‏ ويقال له الطَّرْدُ والعكس في مصطلحهم فاعلمه‏.‏

باب‏:‏ كَيفَ كَانَ بَدْءُ الحَيضِ، وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلّم «هذا شَيءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»

باب‏:‏ الأمر بالنساء إذا نُفِسْن

باب‏:‏ غَسْلِ الحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِه

يعني به بَدْءَ هذا الجنس، وأنه كيف ظَهَرَ في الدنيا من كَتْمِ العدم، ولا يختص بأول أمره فقط كما مرَّ مفصّلاً في شرح قوله‏:‏ بَدْءِ الوحي‏.‏ وفي رواية قوية‏:‏ «أنَّ نساء بني إسرائيل كُنَّ يذهبن إلى المساجد فأخذن في التشوُّف إلى الرجال، فمُنِعْنَ عن المساجد، فأُلقي عليهن الحيض عقوبةً لهن»‏.‏ وعُلِم منه أن منع النساء عن المساجد سُنَّةٌ ماضية، والبخاري لم يُبَالِ بهذا الحديث، وأخذ من قوله‏:‏ «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» أنه من الابتداء وليس بدؤه من بني إسرائيل، ولم يوفِّق بينهما أن بدأه وإن كان من بدء الزمان إلا أنه أُلقي على بني إسرائيل قهراً، فزِيد فيهن شيئاً نِقمةً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

294- قوله‏:‏ ‏(‏سرف‏)‏ هذه قصة حَجَّة الوداع، وأنا أبكي لمخافة فوات الحج‏.‏

294- قوله‏:‏ ‏(‏أنُفِسْتِ‏)‏ قيل‏:‏ المجهول في الولادة والمعروف في الحيض، وقيل‏:‏ لا فرق بينهما‏.‏

294- قوله‏:‏ ‏(‏غير أن لا تطوفي‏)‏ إلخ‏.‏ والسعي يترتب على الطواف فلا تسعى أيضاً‏.‏

294- قوله‏:‏ ‏(‏وضحى‏)‏ وحمله محمد رحمه الله تعالى في «الموطأ» على دم التمتع، لأنهن كن متمتعاتٍ، والراوي لا يَبحث عن المعاني الفقهية ولا يراعيها، وإنما يرى صلوح اللغة فقط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالبقر‏)‏ قيل‏:‏ الأزواج تِسعاً فكيف جاز عنهن بقراً‏؟‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إنه اسم جنس يجوز إطلاقه على البقرتين أيضاً، وعند النسائي‏:‏ «بقرة» بتاء الوَحْدَة‏.‏ قلت‏:‏ وحينئذ غرض الراوي بيان الشركة في البقرة بدون التعرض إلى جميعهن أو بعضهن، فلا يَردِ أنه ثبت شركة جميعهن برواية النسائي‏.‏ وهذا كالأَلِف واللام للجنس والاستغراق، فإن معنى قوله‏:‏ الحمد لله على الأول أنَّ جنسَ الحمد لله لا لغير الله، فمحطُّ الفائدة في جانب الخبر بخلافه في الثاني، فإنه يكون في المبتدأ، ويكون الإيجاب والسلب فيه، يعني‏:‏ جميع أفراد الحمد لله تعالى دون بعضه، فلم تظهر فائدته في جانب الخبر، وقد بينَّا الفرق بينهما تفصيلاً في المقدمة‏.‏

واتفق أهل اللغة أن التاء في أسماء البهائم للوَحْدَة دون التأنيث، لكن الأولى في إرجاع الضمير أن يراعى اللفظ أيضاً‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ أن قَتَادة لما ورد الكوفة دعا الناس أن يسألوه عما هم سائلوه، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه إذا ذاك صغيراً، فقام وقال‏:‏ إن نملَة سليمان كانت ذكراً أم أُنثى‏؟‏ فسكت، فقال أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ إنها كانت أنثى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ‏}‏ ‏(‏النمل‏:‏ 18‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ تأنيث الفعل فيه لأَجْلِ اللفظ فقط، فلم يلزم كونها أنثى، ولم أجد أحداً من النُّحَاة يوافق الإمام في تلك المسألة غير ابن السِّكِّيت‏.‏

296- قوله‏:‏ ‏(‏الحائض‏)‏ قال الزَّمَخْشَري‏:‏ إنه بدون التاء للسِّنّ، وبها لمن كانت تحيض في الحالة الراهنة، وهكذا الحامل والمُرضِع‏.‏

296- قوله‏:‏ ‏(‏مجاور‏)‏ أي معتكف، وهذه لغة مختصة بأهل المدينة‏.‏

باب‏:‏ قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهيَ حَائِض

هكذا المسألة عندنا، وفي «قاضيخان»‏:‏ أنه يُكْرَه قراءة القرآن عند الجنازة قبل الغُسل وحوالَي النجاسة، وليس هكذا في الحائض، فإن نجاستها مستورة تحت الثياب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتُمْسِكُهُ بعِلاقَته‏)‏ والمسألة عندنا أن ثوب اللابس في حكم اللابس، والذي على القرآن فهو في حكمه، فيجوز مَسُّه من ثوب منفصل أو غلاف منفصل إذ لم يكن مُشَرَّزاً‏.‏ فهذه المسائل أقرب إلى مذهب الحنفية‏.‏ وفي إسناده الفَضْل بن دُكَين، وهو اسم أبو نُعَيم، وقد وقع في إسناد مسلم أبو نُعَيم فقط، فلم يَعْرِفْهُ بعضُ الطلبة، وهو الفَضْل بنُ دُكَيْن كما في إسناد البخاري فاعلمه‏.‏

5- باب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيضاً

قال الشارحون‏:‏ إنَّ المرادَ منه مجرَّد بيان جواز إطلاق الحيض على النِّفاس وبالعكس، ولمَّا وَرَدَ في الحديث إطلاق النِّفاس على الحيض استفاد منه المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يصح إطلاق الحيض على النفاس أيضاً، وإلا فالظاهر في الترجمة أن تكون‏:‏ «مَن سمَّى الحيضَ نفاساً» لِمَا في الحديث من إطلاق النفاس على الحيض دون العكس‏.‏ وقيل‏:‏ إن في الترجمة تقديماً وتأخيراً، فالنِّفَاس مفعول ثان وحيضاً مفعول أول، وكان أصل العبارة هكذا‏:‏ «من سمى حيضاً النفاس» كما في الحديث‏.‏ قلت‏:‏ وهل يجوز أن يكون المفعول الأول نكرة والثاني معرفة‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم كما في «حاشية المغني»‏:‏

كأنَّ سبيئةً من بيت رأس *** يكون مَزَاحَها عسلٌ وماءُ

وأقول‏:‏ إن المصنِّف رحمه الله تعالى لا يريد بيانَ اللغة فقط، بل يريد أن النِّفاس هو دم الحيض، خرج بعد انفتاح فَمِ الرَّحِم، لأن الحامل إنما لا تَحيض لانسداد فم الرحم، فإذا خرج الولد انفتح فمه وتنفس بالدم، فالنِّفاس هو دم الحيض كان مِحْتَبَساً في الرحم لأجل المانع فإذا زال المانع دَرّ دُفعةً، وتلافى الطبعُ ما فاته، كما ترى في النوم، فإنك إذا سَهِرْتَ أو أَرْقْتَ يوماً، ثم غلب عليك النوم، فربما تنام أزيدَ مما كنتَ تعتاده تلافياً لما فات‏.‏

وذكر بعضهم نُكتة وهي‏:‏ أن الدم إنما يصير غذاء للولد بعد أربعة أشهر، وبحساب عشرة في كل شهر يحصل أربعون يوماً، وهو أكثر مدة النفاس‏.‏ ويتفرَّع على هذا التحقيق أنَّ الحامل لا تحيض، وإليه تُشير قواعد الشرع، لأنها لو كانت تحيض كما ذهب إليه الشافعي ينبغي أن ينعدم من الشرع باب الاستبراء، فإن الشرع جعل الطَّمْثَ أمارة لبراءة الرحم، وإذا أمكن الحيض من الحامل أيضاً لم يَبْقَ أمارة للبراءة، فيلزم أن ينعدم هذا الباب رأساً‏.‏

قلت‏:‏ وقد تحقق عندي أن الحامل أيضاً تحيض إلا أنه لا ينبغي أن يعتبره الشرع لِنَدْرَتِه وقِلّة وقوعه جداً‏.‏ ثم من العجائب أن العُلُوق عند الفقهاء لا يكون إلا واحداً، كما قالوا في التوأمين، ويمكن العلوق على العلوق عند جالينوس، فكان ينبغي للفقهاء أن يستشيروا في هذه الأمور الأطباء، لأنهم أعلم بموضوعهم، ولكل فن رجال‏.‏ وإنما تنبهت لهذا الشرح مما علقه ابن بَطَّال على الترجمة الآتية‏:‏ «قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ‏}‏» ‏(‏الحج‏:‏ 5‏)‏ فإنه فَهِم منها أن دم الحيض إذا صار غذاءً للولد فكيف تحيض الحامل، ولذا قال‏:‏ إن غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في باب الحيض تقوية مذهب من يقول إن الحامل لا تحيض، فمن ههنا انتقل ذهني إلى أنَّ المرادَ من هذه الترجمة أيضاً هو التقوية لمذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما عَلِمْتَ تقريره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثِيَابَ حَيضتي‏)‏ ويُستفاد منه أنَّ النساءَ كُنَّ يُعْدِدْنَ الثياب لحيضهن أيضاً، وكانت ثيابهن لعامة الأحوال على حِدَةٍ‏.‏

باب‏:‏ مُبَاشَرَةِ الحَائِض

ذهب محمد وأحمد رضي الله عنهما إلى أنه يُتَّقى موضعُ الدم فقط، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي رضي الله عنهم بالاجتناب عما دون السرَّة إلى الركبة، وهو ظاهر النص ‏{‏فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ‏}‏ يعني هو أصدق وأكثر تناولاً لمراتبه على مذهبنا، وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عامة الأحاديث كما عند أبي داود‏:‏ «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يأمرهن بالاتِّزَار ثم يُبَاشِرُهُنّ»‏.‏ أما ما رواه أبو داود في حديث أنَّه قال‏:‏ «ادِني مني، فقلت‏:‏ إني حائض، فقال‏:‏ وإن، اكشفي عن فخذيكِ، فكشفتُ فخذيّ، فوضع خَدَّه وصدره على فخذي وحَنَيْتُ عليه حتى دفىء ونام»‏.‏ فإسناده ضعيف على أنَّ المراد من الكشف هو الكشف عن الثوب الزائد، ولا يتعين في الكشف عن البدن، وبه أجاب النبي صلى الله عليه وسلّم سائلاً حين سأله عما يَحِلّ له من زوجته فقال‏:‏ «لك ما فوق الإزار»‏.‏ رواه ابن ماجه بإسناد حسن‏.‏ وهو الأحوط، وهو غير خفي‏.‏

أما قوله‏:‏ «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح» عند مسلم فيخصَّص عمومه لهذه الأدلة، ويبقى شيوعُه فيما سوى تحت الإزار، لأن عموم الكل في هذا الموضع عموم غير مقصود، والعموم إذا كان غير مقصود فهو ضعيف جداً كالعموم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء‏}‏ ‏(‏النمل‏:‏ 23‏)‏ مع أنها لم تكن أُوتِيَتْ من شيء واحد كله، فكيف بكل شيء، أو يقال‏:‏ إنه كناية عن الاستمتاع بما تحت الإزار، وإن كان صريحاً في النكاح‏.‏

باب‏:‏ تَرْكِ الحَائِض الصَّوْم

وفيه خلاف الخوارج، وليس عِدَادهم في أهل السنة لِيُعْتَدَّ بخلافهم، ونُقِل في الحكايات أن حواء عليها السلام أُمِرَتْ أن لا تصلَى في أيام حيضها، فقاستِ الصومَ عليها، فعُوتبت وأُوجب عليها قضاؤه‏.‏ ولم أره روايةً، نعم رأيت أنها إذ دَمِيَتْ بعد نزولها في الدنيا سألتْ آدم عليه السلام عنه، فأُوحي إليه أنه عتاب‏.‏ وعندي هذا العتاب مخصوص بهذه الدار مَن ينزل فيها يُعَاتَب هذا العتاب، ويُبتلى به، ومن يتركها مهاجراً إلى الله ويصعد إلى مأواه يخلص منه، كما أن آدم عليه السلام حين أكل الحَبَّة وأحس بحاجة الغائط نُودي أن اهبط منها، فإنها ليست بموضع الألواث، واذهب إلى مكان فيه ذلك‏.‏ ولم يكن يعلم قبلَه عورتَه، فاطلع عليها بعده، وأشا القرآن إليهما‏.‏ ثم الفرق بين قضاء الصلوات والصيام كما هو مذكور في «الهداية»‏.‏

واعلم أنَّ الطهارةَ شرط للصلاة عند عامتهم، وكذا صرحوا في الحج أن الطهارة في المناسك واجبة في بعضها وسنة في بعضها، كسَتْرِ العورة، فإنه وإن كان فرضاً في الخارج وفي عامة الأحوال إلا أنه من شرائط الصلاة وواجبات الحج، فاتفقوا في اعتبار الطهارة في العبادتين‏.‏

قلت‏:‏ وقد تبين لي أنها معتبرَة في الصيام أيضاً، ولم يُنَبِّه عليه أحد، فالعبادات كلها لا تتكامل إلا بالطهارة، ومن أدخل فيها نقيصةً انتقصت عبادته، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم في الجُنُب «لا صوم له»، وفي المُحْتَجِم‏:‏ «أفطر الحاجم والمحجوم»‏.‏ ثم لا يخفى عليك أن هذه النقيصة في النظر المعنوي دون نظر الفقيه، فإنه يقتصر على أحكام الدنيا كالغِيبة في الصوم، فإنه إفطار معنًى، لأنها أكل اللحم معنى، وإن لم يكن حسباً‏.‏ والحاصل‏:‏ أنَّ الحدثَ كما ينافي الصلاة كذلك ينافي الصيام أيضاً، وإن كان فرقٌ بين جهتي المنافاة‏.‏

باب‏:‏ تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالبَيت

أباح المصنِّف رحمه الله تعالى للحائض والجُنُب أن يقرآ القرآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إبراهيم‏)‏ وهو النَّخَعِي، وفي قراءة الآية خلاف بين الكرخي والطحاوي، وهما معاصران، وأظن أن الطحاوي كان شيخاً وهذا شَارِخاً إذ ذاك، فذهب الطحاوي إلى إباحة القراءة بما دون الآية لهما، ومنع عنها الكرخي مطلقاً‏.‏

قلت‏:‏ ولعلَّ نظر الطحاوي أن التحدي لمَّا لم يقع إلا بالآية، فالإعجاز يكون فيها، بخلاف المفردات، فإنها مستعمَلَة فيما بينهم أيضاً، فلا إعجاز فيها، ولذا لم يقع التحدي بها‏.‏ على أنّا لو منعنا عنها يلزم الحَجْر عن التكلم، لأن مفرداتِ القرآن ومفردات كلامهم سواسية‏.‏ وهذه حقيقة عظيمة راعاها الطحاوي ونَبَّه عليها، حيث دل على أن ما دون الآية ومفرداتها لا يسمى قرآنا، ولا يكون له حكمه، فيجوز قراءته ومَسّه، ولو لم يدلَّ عليه لبقينا في حيرة ولم نَدْرِ أن ما دون الآية قرآن أم لا‏.‏ والذي يَسبِق إلى الذهن في الظاهر أن مجموعَه قرآنٌ بما فيه، فيكون كل لفظ قرآناً، ويُشْكِل الأمر، فَنَبَّه على أن القرآن لا يُطْلَق على ما دون الآية بل يقال له‏:‏ إنه من القرآن وجُزء منه، وهو معنى ما في «المشكاة»‏.‏

فَضَّل فيه القرآن على الأذكار مع أنَّ جُلَّ الأذكار جزء من القرآن، فجعلها من كلام الله ولم يجعلها كلامَ الله بعينه، فدلَّ على أنَّ الإعجاز في قيام هيئة الآية‏.‏ وتلك الكلمات لمّا لم تكن آيةً كاملة لم تكن معجزة، فلم تكن كلام الله، بل من كلام الله فانحطت درجتها عنه‏.‏

وعندنا تفصيلٌ آخرُ أيضاً، وهو‏:‏ أن قراءة الآية إن كانت بطريق التلاوة لا يجوز، وإن كانت بطريق الذِّكْر فيجوز‏.‏ ثم اختُلِف في اشتراط اشتمالها على مضمون الذِّكر وعدمه، ثم إن المصنِّف رحمه الله تعالى أخرج قِطعة من قصة عبد الله بن رَوَاحة في صلاة الليل، وهي مفصَّلة عند الدارقطني، وفيها دليل على أنَّ الجُنُب ليس له أن يقرأ القرآن، «فإن زوجتَه رأتهُ يطأ جاريةً له، فغارت عليها، فوجدته نائماً، فجلست على صدره وهددته بالقتل، فقال ابن رَوَاحة‏:‏ ما جامعتُها، فجعل يقرأ أشعاراً يُرِيها كأنه يقرأ قرآناً، ولم تكن قارئةً، فحسِبته قرآناً وأرسلته»، فدلّ على أنَّ القرآن كان ممنوعاً على الجنب عندهم بحيث كان يعلمه مَن قرأ ومن لم يقرأ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يَرَ ابن عباس رضي الله عنه‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ولنا أحاديثُ مرفوعةٌ أخرجها أصحاب السنن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يذكر الله على كل أحيانه‏)‏ وشَرَحَهُ بعضهم أن المراد من الذِّكر هو الذكر القلبي، وليس بسديد عندي، فإنه لا يُقال له ذِكر لغةً، إنما هو فِكرٌ، والذي يعرفه أهل اللغة هو الذكر باللسان، جهراً كان أو سراً، والمراد عندي أنه كان يذكر الله في كل أحيانه المتواردة، لأن حال الإنسان على نحوين‏:‏ حاله المتشابه، والثاني‏:‏ المتوارد، أعني به كالقيام من القعود وبالعكس، ودخوله في المسجد والخروج منه، وكذا دخوله في السوق والبيت والخلاء، والخروج منها، وإيواؤه إلى فراشه ونومه ويقظته وغير ذلك‏.‏

فإذا كان حاله من نوع واحد فهو حال متشابه، وإذا نواردت عليه الأحوال واحداً بعد واحد فهي الأحوال المتوارِدة، فالمراد من أحيانه وأحواله هي تلك الأحيان والأحوال، وأذكارها مبسوطة في كتب الحديث، وقد أُفرِد لها بالتصنيف أيضاً؛ وإلا فيُشْكِل على الإنسان تصوره وإمكانه، فإن من الأحيان دخولَه في الخلاء ومنها أوانُ تكلمه من غير الذكر، فكيف يَصْدُق أنه كان يذكر في كل أحيانه، فإنه يستلزم أن يكون معطلاً عن سائر الأفعال سواه‏.‏ وتبيَّن مما قلنا أن أذكارها كانت مبسوطةً ومنسحبة على الأحوال المتواردة كما يُعْلَم بالمراجعة إلى حال الأدعية مع كونه ذاكراً في عامة الأحوال المتشابهة أيضاً، أو يقال معنى قوله‏:‏ «كان يذكر الله» أي لم يكون ممنوعاً عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويدعون‏)‏ واعلم أنَّه لا دعاء بعد صلاة العيدين، لأنَّ المطلوب ههنا اتصال الصلاة ولخُطبة، ولا ينفع فيه التمسك بالإطلاقات، وإنما يَسُوغ التمسك من الإطلاقات فيما لم تكن له مادة في خصوص المقام، وصلاته تلك لم تزل إلى تسع سنين، ولم يَنْقُل أحدٌ فيها الدعاء بعدها، فلا يصح فيها التسمك بالإطلاقات‏:‏ كرفع اليدين في تكبيرات العيدين ثبت في الأحاديث في خصوص هذه الصلاة، فالتمسك على كراهته بقوله‏:‏ «مالي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيلِ شمس» باطل، وكالجمع في عَرَفَة والمُزْدَلِفة، فإنه ثابت بأدلته، والتمسك بما يخالفه على نفيه باطل، وأمثلته غير قليلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا فيه‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وكتابة آية إلى كافر واسعة عندنا أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحكم‏)‏ وفي «الهداية» في باب الأذان‏:‏ أن الطهارة تُستحبُّ لكل ذِكرٍ، وذهب صاحب «البحر» إلى أن التيمم لمّا لم تُشْتَرَط له الطهارة مفيد مع وجدان الماء أيضاً، كتيممه صلى الله عليه وسلّم لردِّ السلام في رواية أبي الجُهَيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تأكلوا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفيه حكاية وهي أن الشافعية رحمهم الله تعالى أقاموا حفلة في زمن ابن سُرَيج الشافعي رحمه الله تعالى وتناجَوا من قبلُ أن يَسأل فيه سائل عن مسألة المُصَرَّاة لتظهر سخافة مذهب الحنفية، ففعل، فأجابه ابن سُرَيج أن فيها خلافاً بين أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبين النبي صلى الله عليه وسلّم فأقام الحنفية بعدها حفلة أخرى لجوابهم وتناجَوا مثلهم لمثله، فسأل فيها سائل عن متروك التسمية عامداً، فقام رجل وقال‏:‏ فيه خلافٌ بين الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وبين رَبِّ العزة‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

باب‏:‏ الاسْتِحَاضَة

واشتقاقه من الحيض، فكيف يمكن أن يكون بينهما فرقٌ لغةً، وإنما يقولون‏:‏ استُحِيضتْ المرأة إذا غلب عليها الدم، ثم الفقهاء يجعلون منه حيضاً واستحاضة على حسب أحكامهم، والحديثُ يُحْمَل على اللغة دون العُرْف الحادِث‏.‏ ثم إن الفرق بين دم الحيض والاستحاضة عسيرٌ جداً لا يمكن من حُذَّاقِ الأطباء أيضاً، فلا بد أن يُتَوَسَّع في الأحكام‏.‏

ثم إن الدِّعامة في هذا الباب عنوانان‏:‏ الأول‏:‏ عِدَّة الأيام والليالي، والثاني‏:‏ الإقبال والإدبار، والأول أقربُ إلى نظر الحنفية، لأنه إحالة على عادته بدون تعرض ألى الألوان، والثاني أقربُ إلى الشافعية لإيمائه إلى التمييز بالألوان‏.‏ واستفدتُ من «سنن البيهقي» أنَّ المحدثين أيضاً فَهِمُوا بينهما فرقاً ولذا يُغَلِّطون الرواةَ إذا تفرَّد أحدُهم بذكر أحد العنوانَين مكان الآخر، وعليه مشى أبو داود في كتابه فبوَّب مرةً بمَن قال‏:‏ تدعُ الصلاةَ في عدة الأيام التي كانت تحيضهن، وأخرى‏:‏ إذا أقبلت الحيضةُ تدعُ الصلاة‏.‏ ومن ذكر منهم أحدَهما مكان الآخر نُسِب إلى الوَهَم، ولم أدرِ من كتاب البخاري أنه راعى هذا الفرق أم لا‏.‏

أقول‏:‏ أما الرواة فإنهم لا يفرقون بينهما حتى إنهم يذكرون أحدهما مكان الآخر كما مرّ في «صحيح البخاري»‏.‏ نعم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في «الأم» إلى الفرق بينهما، ثم إنه وإن مرَّ مني أن العنوان الأول أقرب لمذهب الحنفية لكنه ما تبيَّن آخراً- وأن الإنصاف خيرُ الأوصاف- أنَّ محطَّ هذا العنوان ليس إلغاءَ مسألة التمييز أو اعتبار مسألة العادة، بل هو بيان المقدار يعني أنه فوَّض التردُّدَ في عدد أيام الحيض إلى أيام عادتها، فلتعتبرها على عادتها ستة أو سبعة، فالتفويض إلى العادة لهذا لا لإلغاء مسألة التمييز‏.‏ وقد مرَّ الكلام فيه مفصلاً في كتاب الغُسل، وإنما ذكرناه ثانياً لبعض المغايرة وبعض الفوائد‏.‏ راجع «الجوهر النقي»‏.‏

باب‏:‏ غَسْلِ دَمِ المَحِيض

وأجمعت الأُمَّة على نجاسته، ومع ذلك استعمل فيه لفظ النَّضْحِ، فليَتَبَّه‏.‏

307- قوله‏:‏ ‏(‏سألتِ امرأةٌ‏)‏ واختُلِف في اسمها‏.‏

باب‏:‏ الاعْتِكَافِ لِلمُسْتَحَاضَة

وفي فقهنا أنَّ المرأةَ تعتكف في مسجد بيتها لا في مسجد الجماعة‏.‏

قلت‏:‏ والمراد به بيان الأَولى كما في «البدائع» لأنه قد ثبت اعتكاف بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم في مسجده، ولكنه صلى الله عليه وسلّم لم يرضَ به، بل أمر مرةً بتقويضِ خِيَمِهِنَّ وقال‏:‏ «آلبِرَّ يُّردن»‏.‏

فالحاصل‏:‏ أنه لم يُرَغِّبْهُنَّ في ذلك، فإن فعلنَ من عند أنفسهن لم يَنْهَ صراحةً على شأن خاطرهن، فكأنه رضًى مع الكراهة، كما في النهي عن حضورهن في الجماعة، فما في «الدرّ المختار» من لفظ الكراهة محمول على التنزيه عندي، ولا أجترىء أن أحكم على أمر ثبت في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مكروهٌ تحريماً، والعَجَب من السيوطي حيث قال في «حاشية النسائي»‏:‏ إن ارتكاب الكراهة تحريماً جائز للنبي صلى الله عليه وسلّم لأنه شارع، فيكون ثواباً في حقه قلت‏:‏ والذي علمناه أن ارتكابه معصيةٌ باتفاق بيننا وبين الشافعية، فلا أدري ماذا أراد به وراجع كلام ابن رُشْد لتنقيح المذاهب في مسألة الباب‏.‏

فائدة‏:‏ كتب المَقْبِلي أنَّ النَّاسَ سلكوا في الحنفية مسلك التعصُّب، والمَقْبِلي عالم جيد من علماء اليمن‏.‏

309- قوله‏:‏ ‏(‏العصفر‏)‏ ترجمته كسمبه، ويَنْبت في الكشمير فيصير زعفران، وينبت الزعفران في الهند فيصير عُصْفُراً‏.‏

باب‏:‏ هَل تُصَلِّي المَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيه

باب‏:‏ الطِّيبِ لِلمَرْأَةِ عَنْدَ غُسْلِهَا مِنَ المَحِيض

313- قوله‏:‏ ‏(‏أن تحد على ميت‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وهكذا أجاز محمد رحمه الله تعالى الحِدَاد لغير الزوج أيضاً إلى ثلاثة أيام، والإحداد عندنا للمطلَّقة أيضاً، ولم يوافقنا فيه غير إبراهيم النَّخَعِي‏.‏

313- قوله‏:‏ ‏(‏ثوب عَصْبٍ‏)‏ وقد اختُلف في تفسيره بفقدانه في زماننا، وراجع «معجم البلدان» للحَمَوي الحنفي في ذكر مخاليف اليمن، والمشهور أنه ثوب تُتَّخَذ من ‏(‏كلاوه‏)‏، وأجازه مالك إن لم يكن رفيعاً وثميناً، ومنعه الحنفية والشافعية كما نقله النووي، ونَسَب إلى أحمد الجواز‏.‏ وفي «فتح القدير» عن «كافي الحاكم» أن القصب مكروه، ولا يُدْرَى أنه تصحيفُ عَصْبٍ أو المسألة فيه‏؟‏ ثم لم أزل أتفكَّر في مناط الاستثناء أنه كونه رخيصاً ومحقَّراً، أو كونه مروّجاً فيهن‏.‏

وسياق الحديث يدل على أنه كان محقراً عندهم، ولذا أُبيح في الإحداد، وما فَسَّر به عامةُ الناس يُشْعِر بكونه ثميناً، ووجهه أنه لم يتنقَّح عندهم المناط حتى إن ابنَ القيِّم مرَّ عليه ولم يكتب شيئاً شافياً، والذي يظهر لي أن ثوب العَصْب ثميناً كان أو رخيصاً، خشناً كان أو رقيقاً، إنما أُبيح لهنّ في الإحداد لأنه كان هو لباسهن إذ ذاك، فلو مُنِعْنَ عنه أيضاً لضاق الأمر عليهن لقلة الثياب إذ ذلك، فكأنه من باب اختلاف عصر وزمان لا دليل وبرهان‏.‏ ثم إن عند النسائي‏:‏ «ولا ثوب عَصْب» بدل الاستثناء في هذا الحديث بعينه، فانعكس المراد، ولا أعلم أيهما أصح‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ ويمكن أن يكون تصحيف «إلا» حرف الاستثناء‏.‏

313- قوله‏:‏ ‏(‏كست‏)‏ قيل‏:‏ هو كد ويقال‏:‏ له القُسْط، يوجد في بلاد الكشمير والصين‏.‏

313- قوله‏:‏ ‏(‏أظفار‏)‏ وفي نسخة‏:‏ «ظَفَار» قرية في أطراف البحرين، وإن كانت النسخة «الأظفار» فهو نوع طيب كان النساء يجعلنه على هيأة الظفر، وترجمته نك‏.‏

باب‏:‏ دَلْكِ المَرْأَةِ نَفسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنَ المَحِيضِ،

وَكَيفَ تَغْتَسِلُ، وَتأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَتَّبِعُ بها أَثَرَ الدَّمِ

والدَّلك شرط عند مالك كما علمتَ، ولا شك في كونه مطلوباً عندنا أيضا

قوله‏:‏ ‏(‏فِرْصَة‏)‏ أون كى جتيا‏.‏

314- قوله‏:‏ ‏(‏مُمَسَّكَة‏)‏ قيل‏:‏ من المِسْك، وقيل‏:‏ من المَسْك بمعنى الجِلْد، قرىء مُمْسِكَة من الإمساك، وعلى الأوَّلَين يَرِد اعتراض الاشتقاق‏.‏ راجعه في مواضعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتطهري بها‏)‏ فإن كان مُمَسَّكَة من المِسْك فوجه الإشكال أن المِسْكَ لا يُتَطَهَّرُ به، بل يُتَطَيَّب به، فلم تفهم معنى التطهر بالمِسك، وإن كان من المَسْك بالفتح، فوجه الإشكال عدم درايتها طريق التطهر، حتى جذبتها عائشة رضي الله عنها وعلَّمتها‏.‏

باب‏:‏ غُسْلِ المَحِيض

315- قوله‏:‏ ‏(‏توضئي‏)‏ من الوَضَاءة فهو ههنا على اللغة، فالوُضوء أمرٌ شرعي، والطهاة أمرٌ حسي اعتبرها الشارع وضوءاً لأجل الوضاءة‏.‏

باب‏:‏ امْتِشَاطِ المَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ المَحِيض

316- قوله‏:‏ ‏(‏فكُنت ممن تمتع ولم يَسُقِ الهدي‏)‏ واعلم أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلّم لمَّا خرج للحج نادى به في الناس، وكانت العمرة في أشهر الحج في زمن الجاهلية من أفجر الفجور، فأهلَّ أكثرهم بالحج، ثم لمَّا أراد النبي صلى الله عليه وسلّم أن يُعَلِّمهم أن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة أمرهم برفض إحرام الحج وجعله عمرةً، فمن لم يكن عنده هديٌ رفض الحجَّ وصار متمتعاً بغير سَوْق الهدي، أما من كان عندهم هدي فلم يرفضوا إحرامهم لمكان الهدي، ومن ههنا علمتَ أن لا خلاف بين من قال‏:‏ لا نرى إلا الحج، وبين من ذكر التمتع‏.‏

ثم المسألة عندنا أن المتمتع يجمع بين العمرة والحج، بأن يأتي أفعال العمرة أولاً ثم يأتي بأفعال الحج، فإن كان غيرَ سائقٍ الهديَ يَحِلّ بعد عمرته ويُحْرِم بالحج يوم التروية، وإلا يبقى محرماً ثم يُحْرِم بالحج يوم التروية‏.‏ واختُلف في عائشة رضي الله عنها أنها كانت قارنة أو مُفْرِدة‏؟‏ فقال الحنفية‏:‏ إنها كانت أحرمت بالعمرة أولاً كما في الرواية الآتية‏:‏ «وكنتُ ممن أَهلَّ بعمرة» ثم إذا حاضت ولم تَطْهُر حتى قَرُبَ الوقوف رفضتها وأحرمت بالحج، وصارت مفرِدةً ثم اعتمرت بعد الفراغ عن الحج مكان عمرتها التي كانت رفضتها‏.‏

316- قوله‏:‏ ‏(‏امتشطي‏)‏ من المَشْط يقال‏:‏ سَرَّح الشعر أي خَلَّص بعضَه عن بعض، ورَجَّلَه أي جعله مستقيماً حتى لا يبقى فيه الجُعُودة، ويقال امتشطت المرأة شعرها أي مشطتها بالمُشْط وهذا صريح في أنها كانت رفضت عمرتها، وأوَّله الشافعيةُ بأن المراد منه الامتشاط بالرِّفق لئلا تنقض الأشعار، ولا ينافى الإحرام، وهو كما ترى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرها بذلك لئلا يناقض مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى، بل الامتشاط على ما هو المعروف ولا يخلو عن نقض شعر عادة‏.‏ على أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أبا موسى بنقض إحرامه بمثل هذه الألفاظ كما في الصحيحين‏.‏

316- قوله‏:‏ ‏(‏وأمسكي عن عمرتك‏)‏ هذا أيضاً أقرب إلينا، ومعناه عندنا رفضُ العمرة، وقال الشافعية معناه دعي أفعال العمرة مع إبقاء الإحرام على حاله‏.‏ قلت‏:‏ إذا كانت أفعال العمرة عندكم داخلة في الحج للقارن، فلا تكون أفعال العمرة إلا أفعال الحج، فما معنى تركها فإنها لا تطوف إلا طوافاً واحداً ولا تسعى إلا سعياً واحداً، وتُحسب أفعالُها عنهما جميعاً، وإذن لم يبقَ لقوله‏:‏ ‏(‏وامسكي عن عمرتك‏)‏ مصداق‏.‏

316- قوله‏:‏ ‏(‏مكان عمرتي التي نَسَكْتُ‏)‏ هذا أيضاً يؤيدنا لأنه يُشْعر برفض عمرتها الأولى، ولذا احتاجت أن تعتمر مكانها أخرى، وأوَّله الشافعية أنها لم ترضَ أن تكتفي بالعمرة المتضمنة وألحَّتْ أن تعتمر منفردة أيضاً مكان عمرتها المتضمنة، فتكون لها في هذه السنة عمرتان‏:‏ عمرتها المتداخلة في حجها، وعمرتها هذه بعد الفراغ عن الحج‏.‏

قلت‏:‏ وما لها أَلَحَّتْ عليه مع أن عمرة النبي صلى الله عليه وسلّم أيضاً كانت مندمجة في الحج على نظرهم، فإذا كان حالها كحال النبي صلى الله عليه وسلّم فما الإلحاح وما الاضطراب‏؟‏

باب‏:‏ نَقْضِ المَرْأَةِ شَعَرَها عِنْدَ غُسْلِ المَحِيض

317- قوله‏:‏ ‏(‏قال هشام ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة‏)‏ وهذا مشكل لأنه لا مناص عن الدم، أما دم القِران أو دم الرفض، على اختلاف النَّظَرَين، على أنَّ في الخارج تصريح بذبح النبي صلى الله عليه وسلّم بقرةً عن نسائه، فلعله لم يبلغ هشاماً فذهب الناس في توجيهه كلَّ مذهب‏.‏ وأقول‏:‏ إن الهدي إنما يقال لما يُهدى إلى البيت، فدلَّ من حاقِّ لفظه أنه اسم لما يكون معه من بيته، فالنفي حينئذ محمول على أنها لم تكن ساقت الهدي معها كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم ساقها، فالمنفي هو كون الهدي معها لا الذبح عنها‏.‏ ثم إن المتبادَر أنه من دماء الحج، فلا يُحْمَل على الأضحية، وإنما عَبَّر عنه بالتضحية لكونه في زمان الأضحية‏.‏ وراجع الهامش والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ ‏{‏مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 5‏)‏

باب‏:‏ كَيفَ تُهِلُّ الحَائِضُ بالحَجِّ وَالعُمْرَة

وتناسبه الترجمة الماضية‏(‏ع2‏)‏ باب من سمى النِّفَاس حيضاً، وقد مرَّ أنَّه لا يريد منها بيان اللغة بل بيان الحُكم، أي الحيض والنفاس اسمان لدم واحدٍ، فما خرج من الحَائِل في أيامه يقال له‏:‏ الحيض، وما خرج من الحامل بعد الولادة يقال له‏:‏ النِّفَاس‏.‏ وراجع الحاشية لابن بَطَّال- وهو مالكي المذهب وشارح متقدم للبخاري- ومن أهم فوائده أنه إذا ذكر مذهباً ذكر معه أسماء جملةِ من ذهب إليه من الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مُخَلَّقة‏)‏ يعني أن الله تعالى إذا أراد أن تَلِدَها سليمةً يجعل دمَ الحيض غذاءه فتلدها مخلَّقة وإن أراد أن يكون غير مخلقة لا يجعله غذاءً لها، وتصير سِقْطاً، فتلدها خَديجاً غير تامة‏.‏ قيل‏:‏ إن تلك الأطوار على خلاف ما في الطِّب‏.‏ قلت‏:‏ كلا بل هي في الطب كذلك كما ذكره الأنطاكي في «تذكرته»‏.‏ واعلم أن للتقدير أنواعاً، فمنها تقدير أزلي، ومنها مُحْدَث، ومنها ما كُتِب قبل خلق العالَم بخمسين ألف سنة، ومنه ما يكون في ليلة البراءة، ومنه هذا الذي في رَحِم أُمّه‏.‏ فاعلمه‏.‏

يعني أنه يجوز لها الإحرام لأنها غير ممنوعة عنه، والحيض ليس من محظوراته‏.‏

319- قوله‏:‏ ‏(‏منّا من أَهَلَّ بعمرة‏)‏ يعني في الحالة الراهنة، وإن أَهَلَّ بالحج يوم التروية، لا أنه أَهَلَّ بها فقط ولم يحجَّ في تلك السنة مع بلوغه بمكة‏.‏

باب‏:‏ إِقْبَالِ المَحِيضِ وَإِدْبَارِه

باب‏:‏ لا تَقْضِي الحَائِضُ الصَّلاة

ولم يُفْصِح بعبرة التمييز بالألوان، بل أخرج أثراً عن عائشة رضي الله عنها يدل على هدره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالدُّرْجَة‏)‏ ‏(‏دبيه‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏القصة البيضاء‏)‏ ‏(‏قلعى جونه‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعابت عليهن‏)‏ قيل‏:‏ إنَّ النظرَ في جوف الليل مطلوب في نفسه، لأنه إن انقطع دمها تصلي العشاء وإلا لا، فَلِمَ عابت عليهن‏؟‏ وأجاب عنه السَّرَخْسِي رحمه الله تعالى بأنه لم يكن يحتاج له إلى السُّرُج والمصابيح، وكان يكفي لها الإحساس بالبلل‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ليس بوجيه، لأنه لا يتبين منه أنها رطوبة الفرج أو دم الحيض، فلا بد من السِّراج، وقد كان جوابه تبين لي ثم رأيته في كلام الشَّاطِبي الشافعي مصرحاً‏.‏ فالوجه أن العيب على تعمقهن أزيد من الحاجة بما لم يُؤْمَرْنَ به، فإنَّ الشرع لم يُضَيِّق عليهن بهذه المثابة، وإنما الأمر أن يكتفين ببِلَّة الكُرْسُف إذا كانت عادتهن معلومة، كما في الفقه أنها إذا وضعت كُرْسُفاً ثم لم تَرَ عليه أثراً في الصبح تصلي العشاء، ولا إثم عليها، وإن رأته ملوثاً تَعُدُّ نفسها حائضةً‏.‏

ومما ينبغي أن ينبَّه عليه في هذا المقام أنه يلزم من كتب الفقه والحديث أنها تُعِيد العشاء إذا علمت أنها طَهُرَتْ في الليل، ولا تكون آثمةً بتركها في الوقت، وذلك لعدم التبين في الوقت وعدم تكليف الشارع إياها بالتعمق‏.‏ وراجع «القنية» لمسائل الحيض والمعذور‏.‏ والحاصل‏:‏ أنَّ الشرعَ إذا لم يأمرها بالمراقبة في كلُّ أوان، وأمرها بأدائها عند ظهور الطهور مع عدم التأثيم على قضائها في الوقت، فعابت عليهن على تعمقهن بما لم يكلفهن الله‏.‏

باب‏:‏ النَّوْمِ مَعَ الحَائِضِ وَهيَ فِي ثِيَابِهَا

وظاهر القرآن أنَّه لا يقربها أصلاً، وقد مرَّ معنا أنه كيف المشي على اللفظ عند وضوح الغرض، ولا سيما عند ظهور المناسبة، وأنه ينبغي أن يُبحث عنه بشكل المقدمة، فإنه يدور النظر فيه كثيراً كما ترى ههنا، لأنَّ ظاهرَ لفظِ القرآن الاعتزال وعدم القُربان‏.‏ والغرض الاعتزال عما تحت الإزار مع بقاء الاستمتاع بما فوقه، كما يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «لك ما فوقَ الإزار» على نظر الحنفية، مع أنه قد ظهر أثر لفظ الاعتزال، وتأيَّد بقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ‏}‏‏(‏البقرة‏:‏ 222‏)‏ فهل يُعتمد في مثل هذه المواضع على نظم القرآن، أو يعمل بالغرض المستفاد من الحديث‏؟‏

باب‏:‏ مَنْ أَخَذَ ثِيَابَ الحَيضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْر

صَدَعَ بأن تعدد الثياب لهذا المعنى ليس من الإسراف في شيء، كما مر عليه التنبيه من قبل‏.‏

باب‏:‏ شُهُودِ الحَائِضِ العِيدَينِ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلنَ المُصَلَّى

وكذلك يَحْضُرْنَ عندنا أيضاً، كما في «الهداية»‏.‏ وفي «العيني» هكذا عن سِراج الدين البُلْقيني الشافعي، وهو تلميذ مُغَلْطَاي الحنفي‏.‏ وأما الآن فالفتوى أن لا تخرج الشوابُّ لا في الجمعة، ولا في الجماعات، وهكذا ينبغي، لظهور الفساد في البَرَّ والبحر وقِلّة الحياء، والتواني في أمور الدين‏.‏ أما على أصل المذهب فيصح للحُيَّضِ أن يَحْضُرْنَ دعوة المسلمين كما يَحْضُرْنَ في عَرَفَة، ويعتزلن المُصلَّى‏.‏ والمراد بالدعوة‏:‏ الكلمات الدُّعَائية التي في خلال الخُطبة، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم دُبُرَ صلاة العيدين دعاءٌ ولو مرةً، كما مر آنفاً‏.‏

ثم إنَّ كثيراً من الألفاظ قد شاعت في غير معانيها اللغوية حتى لا تكاد تُدرك معانيها الأصلية، ولا تنتقل إليها الأذهان أصلاً، كالدعاء فإنه شاع الآن في الدعاء بالصورة المعهودة، وليس له في اللغة أصل، وإنما وُضع له لفظ السؤال‏.‏ والدعاء في اللغة‏:‏ بكارنا ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ‏}‏‏(‏الأعراف‏:‏ 55‏)‏ ‏{‏وَمَا دُعَآء الْكَفِرِينَ‏}‏ ‏(‏الرعد‏:‏ 14‏)‏ إلخ، فاعلمه‏.‏

ثم إنَّ المُصَلَّى في الزمان القديم لم يكن له أحكام المساجد، أما الآن فينبغي أن يكون في حُكم المسجد، لإحاطته بالجدران، وبنائه على هيئة المساجد، فينبغي أن لا يَدْخُلْنَه‏.‏

324- قوله‏:‏ ‏(‏محمد بن سلام‏)‏‏:‏ وهو البِيكَنْدي رفيق أبي حفص الكبير، ويقال لابنه‏:‏ أبو حفص الصغير، كانت بينه وبين البخاري مودَّة، وأقام البخاري عنده حين أُجلي عن وطنه، وكان يُرسل إليه الهدايا أيضاً، ومع ذلك لم يزل خلافُ البخاري مع الحنفية كما كان‏.‏

324- قوله‏:‏ ‏(‏نَدَاوي الكَلْمى‏)‏، وهكذا مصرَّح في سيرة محمد بن إسحاق أيضاً‏.‏

324- قوله‏:‏ ‏(‏لتلبسها‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ عُلِم منه أن الجِلْبَاب مطلوب عند الخروج، وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جِلْبَاب‏.‏ والجِلْباب‏:‏ رداء ساتر من القَرْن إلى القدم‏.‏ وقد مَرَّ معنا أن الخُمُرَ في البيوت والجلابيب عند الخروج، وبه شرحتُ الآيتين في الحجاب‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏‏(‏النور‏:‏ 31‏)‏ والثانية‏:‏ ‏{‏يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ‏}‏‏(‏الأحزاب‏:‏ 59‏)‏‏.‏

324- قوله‏:‏ ‏(‏العَواتِق‏)‏ أي مَن قاربْنَ البلوغ‏.‏ والأصل أنهن بناتٌ مُعْتَقَةٌ عن خدمة والديهِنَّ، ولعلّه كان في عُرفهم أنهم لم يكونوا يستخدمونهن‏.‏

324- قوله‏:‏ ‏(‏الحُيَّض‏)‏ يعني أنهن إذا كُن حُيَّضاً فما يفعلن بحُضورهن المُصَلى‏؟‏ فقال العلماء‏:‏ لإِراءة شوكة المسلمين‏.‏

باب‏:‏ إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ، وَمَا يُصَدَّقُ النِّسَاءُفِي الحَيضِ وَالحَمْلِ وفِيما يُمْكِنُ مِنَ الحَيض

وهذه الترجمة لا تستقيم على مذهب أحد، إلا على مذهب مَن اختار عدم التوقيت في الحيض، كمالك رحمه الله تعالى‏.‏ أما الشافعية رحمهم الله فأقلُّ الحيض عندهم يوم وليلة، والطُّهر أقلُّه خمسةَ عشرَ يوماً إجماعاً‏.‏ والعِدَّة عندهم بالأَطهار، فيحتاج إلى خمسةٍ وأربعين يوماً للأَطهار، ويومين للحيضتين، فلا تمضي عدتُها إلا في سبع وأربعين يوماً عندهم‏.‏ نعم لو فرضنا أنه طلقها في آخر الطُّهْر، فيجب عليها أن تتربص طُهرين آخرَين، وثلاث حِيَض، فلا تمضي عِدَّتُها إلا بثلاثٍ وثلاثين يوماً‏.‏

وأما الحنفية فأقلُّه عندهم ثلاثةُ أيام، فلا تمضي عِدّتُها إلا بتسعةٍ وثلاثين يوماً‏:‏ تسعة أيام لحيَضها، وشهر لطُهرها‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن فَتوى عليَ وشُرَيح رضي الله عنهما لا تستقيم على المذهبين، وَلْيُمْعِنِ النظرَ فيه كلُّ مَن كانت له عينان، لأنه مؤثر في مسألة أقلّ الحيض وأكثره جداً‏.‏ وجمع الحافظ رحمه الله تعالى طُرُقه، وأخرج لمذهبه مخرَجاً، فأتى بروايةٍ من الدارِمي وفيها‏:‏ «خمساً وثلاثين» يوماً بدل الشهر، وادَّعى أنَّ الراوي حذف الكسر فاستراح منه‏.‏ قلت‏:‏ وإذا تُسومح في حَذْف الخمس فليكن هَيّناً لَيِّناً في حقّ الأربعة أيضاً، وليقل‏:‏ إن الراوي حذف تسعة أيام ولا عجب‏.‏

ثم السَّرَخْسي أجاب عنه بوجه آخر، وقال‏:‏ إنَّه مِن باب التعليق بالمُحال، لأن حرف «إن» يستعمل في المحالات أيضاً، وحينئذ حاصله أنها تُصَدَّقُ إن جاءت ببينة مِن بِطانة أهلها، ولكنه مُحال، لأن القضاة كانوا يعلمون أن مُضي العدة في تلك المدة غير ممكن‏.‏ وإذا كان الزمانُ زمانَ التدين فلا يشهد لها أحدٌ من بطانة أهلها، فلا يمكن أن تُصَدَّق في هذه المدة وهو كما ترى، على أن في الفقه أنها لا تُصَدَّق عند الخصومة إلا بالشهرين، كذا في «الدر المختار» من باب الرجعة‏.‏ واختلفوا في تخريجه، فقيل‏:‏ شهر للحِيَض الثلاث على أن أكثره عشرة، وشهر للطُّهرين‏.‏ وقيل‏:‏ بل يُؤخذ للحِيَض الوسط، لا أقلَّ ولا أكثر، وهو خمسة أيام، فيكون نصف الشهر للحيض، والباقي للطهر‏.‏

ووجهه‏:‏ أنَّ المرأةَ إذا ادعت بانقضاء عدتها وأنكره الزوج، وجب رعاية الطرفين، فلم نأخذ بالأقل وأخذنا بالمتيقَّن‏.‏ ولأن العدة يدخل فيها القضاء، ولا سيما عند الخصومة، وتتعلق بها الأحكام، فإنها تَنْكِح بعدَها زوجاً آخر، وربما يُحتمل أن تكون كَذَبَتْ في أخذ طَمْثها بالأقل، وتكرار الطَّمْث في شهر أيضاً نادر، فلا يحمل القاضي عليه، فلا بد أن لا تُصَدَّق بأقل من شهرين لتنقضيَ عدتها بيقين‏.‏ وهكذا فعله المالكية رحمهم الله تعالى بعينه، فإن الحيض وإن أمكن عندهم ساعةً لكنهم قدَّرُوه في باب العدة احتياطاً، فما دامت المعاملة كانت في بيتها وما كان أمكن أحكام الصلاة والصيام فَوَّضوه إلى رأيها، وإذا تعلق بها حقُّ العبادة عينوه، لعين ما قلنا‏.‏ وأتصرف فيه من قِبل نفسي- وإن لم يكتبه أحدٌ- وأقول‏:‏ إنه إن لم تقع الخصومة بينها وبين الزوج، وادعت المرأة بانقضاء عدتها في تسعة وثلاثين يوماً تُصدَّقُ ديانةً‏.‏

وما في المتون فهو مسألة القضاء عندي قطعاً، فإنهم إذا عينوا الأقل والأكثر من الحيض والطهر في بابيهما، وجعلوه كلية، فمن هدمه في هذا الباب، فإن لم نعتبره في باب العدة تناقضت المسألتان، لأن تحديد الأقل والأكثر يستلزم تصديقها بانقضاء عدتها إذا احتملت المدة، وعدم تصديقها إلا بالشهرين يستلزم هدر هدر هذا التحديد، ولهذا جزمتُ بأن ما في الكتب مسألةُ القضاء دون الدِّيانة‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ عدمَ تصديقها إلا بالشهرين ليس بناء على عدم الحيض بالثلاث، أو على هدر التحديد المذكور، بل بناؤه على عدم التصديق عند النزاع رعايةً للجانبين‏.‏ وإن أمكن مضيُّ عدتها بأخذ تسعة أيام للحيض بناءً على أنَّ أقلَّه ثلاثةٌ وشهر للطُّهْرَين، وحينئذ محطُّ الشهر في فتوى شُريح ليس نفيَ الكسر بل نفي الشهرين، فجاز أن يكون الكسر خمسةً كما قال الحافظ رحمه الله تعالى روايةً، أو تسعةً كما قلنا ولا يذهب عليك أن هذا تصرف في التعبير والتقرير فقط، لا تغيير في المسألة‏.‏ وكم من مواضع سلكتُ فيها هذا المسلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما يُصَدَّقُ النِّساءُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ يعني أنه يصدّق بقولهن في باب الحمل والحيض فيما يمكن انقضاء الحيض في تلك المدة، ولذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏‏(‏البقرة‏:‏ 228‏)‏ فنهى عن الكتمان، ولو لم يكن قولُهن معتبراً لما كان في نهيهن معنى، فإذا نُهين عن الكتمان وجب للقوم أن يعتبروا بقولهن، إلا أن يَقُلن بما يخالف البداهة من انقضاء العدة فيما لم يحتمل انقضاءها فيه، فاستدل به المصنِّف رحمه الله تعالى على عبرة قول المطلَّقة إن ادَّعت بانقضاء عدتها في شهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويُذْكَر عن عليِّ وشُرَيح رضي الله عنهما‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وشُرَيح هذا كان قاضياً منذ نصَّبه عمر رضي الله عنه‏.‏ فمرّ على عليّ رضي الله عنه يوماً، فأمرَهُ أن يحكم في تلك القضية‏.‏ قال شُرَيح‏:‏ أَبين يدي الأمير أَحْكُم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ثم حَكَم شُرَيح بما في الكتاب‏.‏ وفي «الفتح»‏:‏ أن علياً صوّبه، وقال‏:‏ قالون‏:‏ وهو في لسان الروم بمعنى أحسنت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بِطَانَة أَهْلِها‏)‏ يعني خواصَّ أهلها ‏(‏ابنى خاص كنبه مين سى‏)‏، وقد سمعت أنَّ هذا الأثر مخالفٌ للشافعية والحنفية، وأقرب بِمَنْ لم يَرَ التوقيت في أمر الحيض‏.‏ وأجاب عنه الحافظ رحمه الله تعالى بما في الدارمي بزيادة الكسر، وأجبتُ عنه بِحَمْله على الدِّيانة، فلم يخالف ما في المتون من أنها لا تُصَدَّق إلا بالشهرين، فإنه في حقّ القضاء‏.‏ أما حذف الخمسة أو التسعة فالأمر فيه سهل، وإنما ينازع فيه مَنْ يتعصب لمذهب الحنفية، ولا يتحمل أن يصيبهم خير من ربهم، على أن محط الشهر نفي الشهرين كما مرّ‏.‏

وحاصله‏:‏ أنَّ شُرَيحاً حكم بالدِّيانة دون القضاء، وحينئذ المقصود أنه لم يحكم بالشهرين الذين كانا بحُكْم القضاء، ولذا حَذَفَ الكسر ولم يتعرض له‏.‏ بقي أن شُرَيحاً كان قاضياً، والظاهر من أمره أن يكون حُكمه بحُكْم القضاء‏.‏

قلت‏:‏ ولا يجب على القاضي أن يحكم بحكم القضاء دائماً، بل له أن يحكم بحكم الديانة إذا تراضى الخصمان‏.‏ نعم لا يكون حُكْمه بالديانة حجةً ملزِمة وفاصلاً، فلو رضي به الخصمان جاز له أن يحكم بالديانة، كما في «الدر المختار»‏:‏ ويُفتي القاضي ولو في مجلس القضاء، وهو الصحيح‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وفي «الطحاوي» في باب الصدقات الموقوفات‏:‏ عن أبي يوسف، عن عطاء بن السائب قال‏:‏ سألت شُرَيحاً عن رجل جعل داره حَبْساً على الآخر، فالآخر من ولده‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أقضي ولست أُفتي‏.‏ قال‏:‏ فناشدته، فقال‏:‏ لا حبس على فرائض الله‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فهذا شُريح القاضي أنكر أولاً أن يُفتيَ بحكم الديانة، ثم إذا ناشده أفتى بها، فهذا دليل على أن للقاضي أن يحكم بالديانة أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عَطَاءُ‏)‏ أقْرَاؤها ما كانت‏.‏ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى القديم، كما في «النهاية»‏.‏ وأما الجديد فهو مشهور ويُعْلَم منه‏:‏ أن الأقراء بمعنى الحيض، كما قال به الإمام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مُعْتَمِرٌ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ولا يَنْحلُّ مرادُ ابن سيرين إلا بعد مراجعة أبي داود مُفَصَّلاً‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وروى يونس عن الحسن‏:‏ الحائضُ إذا مدَّ بها الدم- يعني استمر بها وزاد على عادتها- تُمْسِك بعد حيضتها يوماً أو يومين- يعني عن الصلاة والصيام فهي عنده إلى يومين حائضة- فهي- أي بعد يومين- مُستَحاضةٌ‏.‏ وقال التيميُّ‏:‏ عن قَتَادة‏:‏ إذا زاد على أيام حيضها خمسةُ أيام فلتُصَلِّي‏.‏ قال التيمي‏:‏ فجعلت أَنْقُصُ حتى بلغتُ يومين، فقال‏:‏ إذا كان يومين فهو من حيضها‏.‏ وسُئل ابن سيرين عنه، فقال‏:‏ النساءُ أعلم بذلك‏.‏ انتهى‏.‏ يعني أن ابن سيرين لم يُجِبْ فيما زاد على أيامها خمسة أيام، بخلاف ما نقله التيمي عن قَتادة، فإنه جعلها استحاضةً، واليومين حيضاً‏.‏

وهذه المسألة تُسمَّى بالاستظهار عند المالكية‏:‏ وهي أنها تنتظر بعد أيامها إلى ثلاثة أيام، فإن ظهر الدم فيها فإنه يُعَدُّ من حيضها ويُلحق بما قَبْله، وإلا فيكون استحاضةً‏.‏ وعندنا إنْ ظهر الدم في العشرة يُعَدُّ المجموع حيضاً، وإن تجاوز عنها رُدّت إلى عادتها‏.‏ فالعبرة عندنا بظهوره في أيامه أو بعدها، والعبرة عند مالك رحمه الله تعالى بظهوره في ثلاثة أيام، أو بعدها‏.‏ وقد مرّ معنا أن التمييز بين دم الحيض والاستحاضة مُشْكِل جداً، فإنهما دمان مشتبهان، ولذا اختُلِف في إفراز الحيض من الاستحاضة، وإنما عَيَّن مَنْ عَيَّن تقريباً وتسهيلاً لإجراء الأحكام‏.‏ ثم إنَّ هذا كلّه فيما تجاوز الدم على أيامها، فإن تصرَّم عليها فجوابه كما في الفقه‏.‏

تنبيه

وبعض الناس لمّا لم يَدْرِ مسألة الاستظهار عند المالكية كتبوه بالطاء، وهو غلط‏.‏

ولعلك علمت من هذه المسائل أنها لو ترقَّبت ولم تُصلِّ، ثم بدا لها أنها كانت طاهرةً ولم تكن حائضة، أنها غيرُ آثمة بِتَرْك صلاتها في تلك المدة، وأن القرآن إنما بَنَى على رأيهن فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ ‏(‏البقرة‏:‏ 222‏)‏ لأن رأيهن معتَبعر في هذا الباب‏.‏

تنبيه

واعلم أنه قد سها العيني رحمه الله تعالى في شرح قول صاحب «الكنز»‏:‏ «ولا حَدَّ لأكثره إلا عند نصب العادة في زمن الاستمرار»‏.‏ والصحيح كما في «البدائع» و «خُلاصة الفتاوى»، ولعل السهو فيه من المتأخرين، ولا أدري وجه ما اختاروه‏.‏

325- قوله‏:‏ ‏(‏ولكن دَعِي الصلاةَ قَدْرَ الأيام‏)‏‏.‏ وقد مرّ في هذه الرواية لفظ الإقبال والإدبار من قَبْل، فدل على أن الرواة لا يعتنون بهذه التعبيرات وإنما هو تفنن منهم، فتارةً كذا، وتارة كذا، وإنما اعتنى بها بعض المحدثين حتى بَنَوا عليها تغليط الرواة، كما مرّ مُفَصَّلاً‏.‏